
التفكير بالاستثمار الاجتماعي
🔍 ما هو الاستثمار الاجتماعي؟
يعرّف الاستثمار الاجتماعي على أنه الاستثمار الذي يهدف إلى تحقيق ربح مالي بالتوازي مع تحقيق أثر اجتماعي أو بيئي إيجابي قابل للقياس.
🧲 لماذا يفكرون به؟
والاستثمار الاجتماعي ليس نموذجاً مالياً محدّداً، بقدر ما أنه طريقة تفكير إدارية تجاه المجتمع والبيئة، فالعاملون في القطاع غير الربحي يفكرون بالاستثمار الاجتماعي على أنه استراتيجية تساعدهم على تحقيق الاستدامة المالية وبالتالي استمرار منفعة الجمعية إلى المجتمع والبيئة. لذلك هذه الجمعيات الأهلية تعطي الأثر الاجتماعي الأولوية على الربح المالي، وقد تضحي بالأرباح على حساب الأثر الاجتماعي.
وعلى الجهة الأخرى، تفكر الشركات الربحية بالاستثمار الاجتماعي على أنه استراتيجية في تعزيز سمعتها ومسؤوليتها الاجتماعية. هذه الشركات تعطي الأولوية للربح المالي على حساب الأثر الاجتماعي.
هذين المثالين ما يمكن أن نعتبر أوضح مستويين للاستثمار الاجتماعي (الأثر الاجتماعي أولاً، أو الربح المالي أولاً)، والذي يعتبر المنطقة الوسط بين العمل الخيري التقليدي، أو الربحي المالي التقليدي، كما هو موضح في الشكل الآتي:

مستويات الاستثمار الاجتماعي هذه ليست مقتصرة على قطاع معين، لكن عندما تفكر الجمعيات الأهلية بتطبيق الاستثمار الاجتماعي، فإنها تميل إلى العمل على مستوى (الأثر الاجتماعي أولاً). وهو ما نناقشه في هذه الورقة المركزة حول توجهات وآليات تطبيق الاستثمار الاجتماعي في القطاع غير الربحي في المملكة العربية السعودية.
محرّكات نمو الاستثمار الاجتماعي في الجمعيات الأهلية
📈 إلى أين يتجه سوق الاستثمار الاجتماعي والبيئي في المملكة؟
يتجه سوق الاستثمار الاجتماعي في المملكة نحو النمو ويأخذ دوراً استراتيجي في الاقتصاد السعودي، يحرّك هذا النمو عوامل ترتبط بنموذج عمل الاستثمار الاجتماعي نفسه، وهي محرّكات عالمية للاستثمار الاجتماعي، متمثلة بتحديات الاستدامة المالية في القطاع غير الربحي، وحجم القطاع الخاص الذي يمكن استثمار جزء منه في معالجة تحديات المجتمع والبيئة.
🥇كيف تتميز الممكلة في مجال الاستثمار الاجتماعي؟
وتتفرّد المملكة بوجود محرّك وطني خاص وهو الرؤية الوطنية، التي أصبحت تلعب دوراً محورياً في تحريك مختلف قطاعات المجتمع نحو تحقيق أهدافها.
نستعرض فيما يلي هذه المحركات الثلاث، وصولاً إلى مقترحات وتوصيات تدعم صناع القرار في استثمار أمثل لهذه المحركات بما يساهم في تحديات المجتمع والبيئة من خلال الاستثمار الاجتماعي.
🪙 أولا – تحديات الاستدامة المالية للجمعيات الأهلية تدفعها للاستثمار الاجتماعي
يبلغ عدد الجمعيات والمؤسسات الأهلية في المملكة 3،340 جمعية حتى عام 2021 [1]، وغيرها. تشير إحدى المسوح التي أجريت على الجمعيات الأهلية في المملكة عام 2019 أن 20٪ فقط من الجمعيات استطاعت تأمين احتياجاتها من التمويل[2]. وتشير أرقام سابقة أن حوالي 61.8٪ من الجمعيات الأهلية في المملكة تعتقد بعدم كفاية التمويل التي تحصل عليه من المانحين[3].
هذه الفجوة بين الاحتياجات وحجم التمويل لا يمكن علاجها فقط من خلال زيادة المَنح إلى الجمعيات الخيرية. صحيح أن أداء الجمعيات الأهلية يلعب دوراً محورياً في الاستثمار الأمثل لما يأتيها من موارد. وأيضاً لا بدّ من التفكير بطريقة مختلفة تجاه مصادر التمويل في الجمعيات الأهلية. تشير الدراسات أن 34٪ من الجمعيات الأهلية لديها مصدرين على الأقل من الاستثمارات التي تدرّ عليها دخلاً إضافياً إلى جانب المنح[4]. وتشير دراسة خاصة بلجان التنمية المحلية أن 15.9٪ من اللجان تستثمر أصولها ومرافقها بشكل ربحي، وحوالي 11.6٪ منها تبيع خدمات ومنتجات[5].
إذاً غالبية الجمعيات الأهلية في المملكة تواجه تحديات استراتيجية في استدامتها المالية، وغالبيتها لا تملك استثمارات تساهم في تنمية مواردها المالية، وهو ما يدفع إلى التفكير بالاستثمار الاجتماعي على أنه الاستراتيجية الاستثمارية الأقرب للجمعيات الأهلية، كون هذا النموذج من الاستثمارات يوائم بين العنصر المالي الربحي (ما تحتاجه الجمعيات للاستدامة) وبين العنصر الاجتماعي والبيئي (السبب الذي من أجله تعمل هذه الجمعيات).
[1] تقرير آفاق القطاع غير الربحي، منتصف الطريق 2023، مؤسسة الملك خالد.
[2] مركز بناء الطاقات. (2019). دراسة تنمية الموارد المالية في الجمعيات الأهلية في المملكة العربية السعودية.
[3] د. سامر أبورمان. (2015). المؤسسات الأهلية المانحة في عيون الجهات الأهلية في المملكة العربية السعودية.
[4] مركز بناء الطاقات. (2019). دراسة تنمية الموارد المالية في الجمعيات الأهلية في المملكة العربية السعودية.
[5] وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية (2020). دراسة قدرات لجان التنمية المحلية.
🌱 ثانياً – أهداف الرؤية الوطنية
يشتمل الهدف الاستراتيجي (6.3.1) في الرؤية الوطنية 2030 على دعم نمو القطاع غير الربحي، والهدف الاستراتيجي المتعلق به (6.3.2) يشمل تمكين الجمعيات الأهلية لتحقيق أثرٍ اجتماعيٍ مجدٍ (deeper impact).
الهدف الاستراتيجي الأول (دعم نمو القطاع غير الربحي) يتم تحقيقه وفقاً للرؤية من خلال خمس مبادرات استراتيجية، نذكر منها ما يرتبط بموضوع النقاش مبادرة (تنظيم وتمكين العمل الاجتماعي التنموي).
الهدف الاستراتيجي الثاني (تمكين الجمعيات الأهلية لتحقيق أثر اجتماعي مجدٍ)، يتم تحقيقه من خلال ست مبادرات استراتيجية، نذكر منها ما يرتبط بموضوعنا (ابتكار نماذج تمويلية واستثمارية ذات أثر اجتماعي مستدام).
بمراجعة تحليلية لهذه المبادرات الاستراتيجية نجزم القول إن الاستثمار الاجتماعي حل استراتيجي يعمل على تمكين العمل الخيري بنماذج تمويل مستدامة تعتمد على مفهوم الجمع بين الربح المالي والأثر الاجتماعي.
🏢 ثالثا – استثمار حجم القطاع الخاص لتعزيز دوره المجتمعي
يشكل القطاع غير الربحي الآن في المملكة أقل من 1٪ من الناتج المحلي، ويُطمح أن تصل مساهمته إلى 5٪ في عام 2030 وفقاً لرؤية المملكة. والتفكير بتطوير هذا القطاع هو توجه حتمي لا بدّ منه.
غير أنه من التفكير الإبداعي النظر إلى القطاع غير الربحي بطريقة عكسية، وهو منظور القطاع الخاص. ساهم القطاع الخاص بنسبة 51٪ من الناتج المحلي في المملكة عام 2020[1]. لذلك فإن تخصيص 1٪ من مساهمة القطاع الخاص وتوجيهه إلى القطاع غير الربحي، يعني تحقيق قفزة نوعية في أداء وأثر القطاع غير الربحي من 1٪ إلى 2٪ (زيادة ٪100 نسبة مساهمته في الناتج المحلي).
مساهمة القطاع الخاص في العمل غير الربحي لا يمكن أن تندرج فقط ضمن مبادرات المسؤولية المجتمعية، فالشركات الخاصة تصنّف نفقات المسؤولية المجتمعية على أنها عمل خيري يهدف إلى تعزيز السمعة. لذلك يأتي الاستثمار الاجتماعي استراتيجية توازن بين أهداف القطاعين غير الربحي والخاص، فهو يهدف إلى معالجة مشاكل المجتمع والبيئة (السمة الشائعة عن القطاع غير الربحي) ويهدف أيضاً إلى تحقيق النمو المالي (السمة الشائعة عن القطاع الخاص)، بل وتبين العديد من الدراسات أن الأداء المالي للاستثمار الاجتماعي (أو تلك الشركات الخاصة التي تطبق المستوى الأول من معايير الاستثمار الاجتماعي ESG) أداؤها المالي أفضل من نظيراتها.[2]
إذاً إنّ القطاع الخاص في المملكة سيكون له دور استراتيجي فيما لو تم توجيه جزءٍ من أصوله في مشاريع استثمارية مشتركة بين القطاعين الخاص والمجتمعي، تهدف إلى الربح وحل مشاكل المجتمع والبيئة، يحكم شكل هذه الاستثمارات نموذج الاستثمار الاجتماعي.
[1] الهيئة العامة للإحصاء في المملكة العربية السعودية، تقرير الناتج المحلي 2020
[2] انظر إلى دراسات عدة أجرها George Serafeim مع زملائه في كلية هارفارد لإدارة الأعمال. وأيضاً دراسة لـ Gunnar Friede مع زملائه. واطلع أيضاً على دراسة لشركة شـــركة MSCI في عام 2019.
قصة نجاح جمعية عناية في الاستثمار الاجتماعي:
تعتمد جمعية عناية على الاستثمار الاجتماعي كاستراتيجية ناجعة في تحقيق استدامتها المالية، حيث تحقق دخلاً مالياً من الأصول الاستثمارية ورسوم عدد من خدماتها كما هو موضح في الشكل الآتي، وتعيد استخدام العائدات من هذه الاستثمارات في صناعة الأثر الاجتماعي في الجمعية عبر خدماتها ومشاريعها.
*مساهمات المستفيدين في رسوم العلاج: تغطي جمعية عناية جزءاً من تكاليف العلاج أو كاملها، وذلك وفقاً للحالة، لذلك تعتبر مساهمة المستفيد في الجزء المتبقي من تكاليف العلاج عائداً مالياً.
** مجمع عناية الطبي: تقدم جمعية عناية خدماتها عبر المجمع الطبي الخدمات والاستشارات الطبية بأسعار رمزية، وأحياناً تتكفل بالعلاج وذلك وفقاً لدرجة الاحتياج
تنفق جمعية عناية العائد من الاستثمار في صنع الأثر بأسلوبين مباشر وغير مباشر:
- الأسلوب المباشر: وهو إنفاقها للعوائد الاستثمارية في تغطية نفقات الأنشطة، والتي استطاعت من خلالها تغطية 32٪ من نفقات الأنشطة (الخدمات والمشاريع). وذلك يعتبر صناعة للأثر الاجتماعي بشكل مباشر.
- الأسلوب غير المباشر: وهي إنفاقها للعوائد الاستثمارية في تغطية النفقات التشغيلية كنفقات البنية التحتية والموارد البشرية، والتي لا بدّ منها لصناعة الأثر عبر الأنشطة.
إذاً جمعية عناية تحقق العناصر اللازمة لإطار الاستثمار الاجتماعي وفقاً لتعريف Human Centered Investing والذي يقتضي تحقق ثلاثة عناصر:
* وفقاً لآخر تحليل للجدوى الاجتماعية للجمعية عام 2021
وتأخذ جمعية عناية نموذج الاستثمار الاجتماعي الذي يعطي الأولوية للأثر الاجتماعي كما هو موضح في الشكل الآتي الذي يقارن مستويات مختلفة من الاستثمار الاجتماعي:
إذاً جمعية عناية تستخدم الاستثمار الاجتماعي كاستراتيجية في الاستدامة المالية، والعائد المالي ليس غايةً للجمعية، لكن هو وسيلة. وتعتمد على المنح وجمع التبرعات كمصدر أساسي في توسيع استثماراتها، وهو ما يعمق في النهاية أثر جمعية عناية على المجتمع السعودي ويعزّز استدامته، ويدعم بذات الوقت استقرار الجمعية في أوقات الأزمات الخاصة.